فصل: الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ:

أَفْتَى أَصْحَابُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ عَلَى قِسْمَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ وَحَكَى الشَّافِعِي فِي رِسَالَتِهِ وَالْغَزَّالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَفَرْضُ الْعَيْنِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ هُوَ عِلْمُهُ بِحَالَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مِثَالُهُ رَجُلٌ أَسْلَمَ وَدَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِغِذَائِهِ قُلْنَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَعْتَمِدُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَرَادَ الزَّوَاجَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَعْتَمِدُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَهَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ شُرُوطَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ ذَهَبًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ الصَّرْفِ فَكُلُّ حَالَةٍ يَتَّصِفُ بِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَنْحَصِرُ فَرْضُ الْعَيْنِ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ كَمَا يَعْتَقِدُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَغْبِيَاءِ وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» فَمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حَالَةٌ فَعَلِمَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَتَيْنِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ مَعْصِيَتَيْنِ وَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ طَاعَةً وَعَصَى اللَّهَ مَعْصِيَةً فَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْعَالِمُ خَيْرًا مِنَ الْجَاهِلِ وَالْمَقَامُ الَّذِي يَكُونُ الْجَاهِلُ فِيهِ خَيْرًا مِنَ الْعَالِمِ مَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَعْلَمُهُ وَشَرِبَهُ آخَرُ يَجْهَلُهُ فَإِنَّ الْعَالِمَ يَأْثَمُ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا من الْعَالم وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّسَعَ فِي الْعِلْمِ بَاعُهُ تَعْظُمُ مُؤَاخَذَتُهُ لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَهُوَ أَسْعَدُ حَالًا مِنَ الْعَالِمِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِحَالَةِ الْإِنْسَانِ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُسْلِمِينَ حِفْظًا لِلشَّرْعِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ لِهَذَا مِنَ النَّاسِ مَنْ جَادَ حِفْظُهُ وَحَسُنَ إِدْرَاكُهُ وَطَابَتْ سَجِيَّتُهُ وَسَرِيرَتُهُ وَمَنْ لَا فَلَا.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي زَمَانِهِ:

اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا فِي زَمَنِهِ فَوُقُوعُهُ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ بِهِ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ لم يكن متعبدا بِهِ وَلقَوْله تَعَالَى {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْحُرُوبِ دُونَ الْأَحْكَامِ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَتَوَقَّفَ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْكُلِّ وَأَمَّا وُقُوعُ الِاجْتِهَاد فِي زَمَنه عَلَيْهِ السَّلَام وَمن غَيْرِهِ فَقَلِيلٌ وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا فِي الْحَاضِرِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْغَائِبِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ لَهُ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْتَهِدُ رَأْيِي.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي شَرَائِطِهِ:

وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَعَانِي الْأَلْفَاظِ وَعَوَارِضِهَا مِنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَضَمَّنُ الْأَحْكَامَ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ الْحِفْظُ بَلِ الْعِلْمُ بِمَوَاضِعِهَا لِيَنْظُرَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَمِنَ السُّنَّةِ مَوَاضِعُ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ دُونَ حِفْظِهَا وَمَوَاضِعُ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَشَرَائِطِ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَيُقَلَّدُ مَنْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ. وَلَا يُشْتَرَطُ عُمُومُ النَّظَرِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَصِّلَ صِفَةَ الِاجْتِهَادِ فِي فَنٍّ دُونَ فَنٍّ وَفِي مَسْأَلَةٍ دُونَ مَسْأَلَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي التَّصْوِيبِ:

قَالَ الْجَاحِظُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَنْبَرِيُّ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ بِمَعْنَى نَفْيِ الْإِثْمِ لَا بِمَعْنَى مُطَابَقَةِ الِاعْتِقَادِ وَاتَّفَقَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى فَسَادِهِ. وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي الْوَاقِعِ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِي قَوْلُ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنَّا وَأَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو هَاشِمٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَهَلْ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ لَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لَحَكَمَ بِهِ أَمْ لَا؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ وَهُوَ قَول جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُصَوِّبِينَ.
وَالثَّانِي قَوْلُ بَعْضِهِمْ وَإِذَا قُلْنَا بِالْمُعَيَّنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ أَوْ قَطْعِيٌّ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَالثَّانِي هُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ والمتكلمين وَنقل عَن الشَّافِعِي وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَدَفِينٍ يُعْثَرُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا ظَنِّيًّا فَهَلْ كُلِّفَ الْإِنْسَانُ بِطَلَبِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ تَعَيَّنَ التَّكْلِيفُ إِلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَهُوَ قَوْلٌ أَوْ لَمْ يُكَلَّفْ بِطَلَبِهِ لِخَفَائِهِ وَهُوَ قَول كَافَّة الْفُقَهَاء مِنْهُم الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ إِنَّ أَخْطَأَهُ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِذَا خَالَفَهُ قَالَ الْأَصَمُّ: يُنْقَضُ وَقَالَ الْبَاقُونَ لَا يُنْقَضُ وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَقَالَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ وَمُخَالِفُهُ مَعْذُورٌ وَالْقَضَاءُ لَا يُنْقَضُ لَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ أَوْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا فِي النَّقِيضَيْنِ فَيَتَّحِدُ الْحُكْمُ احْتَجُّوا بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَلَوْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَلَّدَهُ وَلَا نَعْنِي بِحُكْمِ اللَّهِ إِلَّا ذَلِكَ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَتَكُونُ ظُنُونُ الْمُجْتَهِدِينَ تَتْبَعُهَا الْأَحْكَامُ كَأَحْوَالِ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُخْتَارِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَيْتَةِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ حَلَالًا حَرَامًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ كالميتة.

.الْفَصْل السَّابِع: فِي نقض الِاجْتِهَاد:

أَمَّا فِي الْمُجْتَهِدِ فِي نَفْسِهِ فَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ عَلَى الْمِلْكِ بِالِاجْتِهَادِ فَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُنْقَضْ وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ نُقِضَ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إِمْسَاكُ الْمَرْأَةِ وَأَمَّا الْعَامِّيُّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمُفْتِي ثمَّ تغير اجْتِهَاده فَالصَّحِيح أَنه تَجِبُ الْمُفَارَقَةُ قَالَهُ الْإِمَامُ وَكُلُّ حُكْمٍ اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي اسْتَقَرَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ مِمَّا يُنْقَضُ فِي نَفْسِهِ.

.الْفَصْلُ الثَّامِن: فِي الاستفتاء:

إِذَا اسْتُفْتِيَ مُجْتَهِدٌ فَأَفْتَى ثُمَّ سُئِلَ ثَانِيَةً عَنْ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِاجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ أَفْتَى وَإِنْ نَسِيَ اسْتَأْنَفَ الِاجْتِهَادَ فَإِنْ أَدَّاهُ إِلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ أَفْتَى بِالثَّانِي قَالَ الْإِمَامُ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُعَرِّفَ الْعَامِّيَّ لِيَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الِاسْتِفْتَاءُ إِلَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِي يَسْتَفْتِيهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ فَإِنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي الْفَتْوَى فَقَالَ قَوْمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْلَمِهِمْ وَأَوْرَعِهِمْ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكُلَّ طُرُقٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَى الْعَوَامِّ فِي عَصْرٍ تَرْكَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ حَصَلَ ظَنُّ الِاسْتِوَاءِ مُطْلَقًا فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ كَمَا قِيلَ فِي الْأَمَارَاتِ وَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَإِنْ حَصَلَ ظَنُّ الرُّجْحَانِ مُطْلَقًا تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِنْ حَصَلَ مِنْ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَ فِي الْعِلْمِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الدِّينِ فَمِنْهُمْ مَنْ خَيَّرَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ قَالَ الْإِمَامُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ وَلِذَلِكَ قُدِّمَ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الْعِلْمِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَدْيَنُ فَإِنْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا فِي دِينِهِ وَالْآخَرُ فِي عِلْمِهِ فَقِيلَ يَتَعَيَّنُ الْأَدْيَنُ وَقِيلَ الْأَعْلَمُ قَالَ وَهُوَ الْأَرْجَحُ كَمَا مَرَّ.

.الْفَصْلُ التَّاسِعُ: فِيمَنْ يتَعَيَّن عَلَيْهِ الاستفتاء:

الَّذِي تَنْزِلُ بِهِ الْوَاقِعَةُ إِنْ كَانَ عَامِّيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ قَالَ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِفْتَاءُ وَإِنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ قَدِ اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَعَيُّنِهِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْتَهِدْ فَأَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا وَقِيلَ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقِيلَ يَجُوزُ فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يُفْتِي بِهِ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ إِنْ ضَاقَ وَقْتُهُ عَنِ الِاجْتِهَادِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لِمُجْتَهِدٍ وَلَا لِلْعَوَامِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلِعِظَمِ الْخَطَرِ فِي الْخَطَأِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ بِخِلَافِ الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَفَرَ فِي الْأَوَّلِ ويثاب فِي الثَّانِي جزما.

.الباب الْعِشْرُونَ فِي جَمِيعِ أَدِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ:

وَفِيهِ فَصْلَانِ:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَدِلَّةِ:

وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَأَدِلَّةُ وُقُوعِهَا فَأَمَّا أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا فَتِسْعَةَ عَشَرَ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَأَمَّا أَدِلَّةُ وُقُوعِهَا فَلَا يَحْصُرُهَا عَدَدٌ فَلْنَتَكَلَّمْ أَوَّلًا عَلَى أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا فَنَقُولُ هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْقِيَاسُ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ وَالِاسْتِصْحَابُ وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْعَوَائِدُ وَالِاسْتِقْرَاءُ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ وَالِاسْتِدْلَالُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالْأَخْذُ بِالْأَخَفِّ والعصمة وَإِجْمَاع أهل الْكُوفَة وَإِجْمَاع الْعشْرَة وَإِجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْأُولَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَهُوَ حجَّة عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِلَّا فَلَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهِمَا وَقِيلَ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ إِذَا اتَّفَقُوا.

.الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ:

وَالْمَصَالِحُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي تَقَدَّمَ.
وَمَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ نَحْوَ الْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ لِئَلَّا يُعْصَرَ مِنْهُ الْخَمْرُ.
وَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِاعْتِبَارٍ وَلَا بِإِلْغَاءٍ وَهُوَ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ وَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةٌ.
وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ إِنْ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ أَوِ التَّتِمَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ وَمِثَالُهُ تَتَرُّسُ الْكُفَّارِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ لَصَدَمُونَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْنَا وَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً وَلَوْ رَمَيْنَاهُمْ لَقَتَلْنَا التُّرْسَ مَعَهُمْ قَالَ فَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً ضَرُورِيَّةً فَالْكُلِّيَّةُ احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمِينَ فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ الْمُسْلِمِينَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ تِلْكَ الْقَلْعَةِ فَسَادٌ عَامٌّ وَالْقَطْعِيَّةُ احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا لَمْ يُقْطَعْ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْنَا إِذَا لَمْ نَقْصِدِ التُّرْسَ وَعَنِ الْمُضْطَرِّ يَأْكُل قِطْعَة من فَخذه والضرورية احْتِرَاز عَن الْمُنَاسِبِ الْكَائِنِ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ وَالتَّتِمَّةِ لَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ فَمَهْمَا وَجَدْنَا مَصْلَحَةً غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ.

.الِاسْتِصْحَابُ:

وَمَعْنَاهُ أَنَّ اعْتِقَادَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَاضِرِ يُوجِبُ ظَنَّ ثُبُوتِهِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ وَهَذَا الظَّنُّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْمُزَنِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَنَا أَنَّهُ قَضَاءٌ بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ فَيَصِحُّ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَادَاتِ.

.الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ:

وَهِيَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْعَقْلِ فِي عَدَمِ الْأَحْكَامِ خِلَافًا للمعتزلة والأبهري وَأبي الْفرج منا وَثُبُوت عَدَمِ الْحُكْمِ فِي الْمَاضِي يُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِهِ فِي الْحَالِ فَيَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَى هَذَا الظَّنِّ بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْ رَافِعِهِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

.الْعَوَائِدُ:

وَالْعَادَةُ غَلَبَةُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي عَلَى النَّاسِ وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْغَلَبَةُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ كَالْحَاجَةِ لِلْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ تَكُونُ خَاصَّةً بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَالنُّقُودِ وَالْعُيُوبِ وَقَدْ تَكُونُ خَاصَّةً بِبَعْضِ الْفِرَقِ كَالْأَذَانِ لِلْإِسْلَامِ وَالنَّاقُوسِ لِلنَّصَارَى فَهَذِهِ الْعَادَةُ يُقْضَى بِهَا عِنْدَنَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِصْحَابِ.

.الِاسْتِقْرَاءُ:

وَهُوَ تَتَبُّعُ الْحُكْمِ فِي جُزْئِيَّاتِهِ عَلَى حَالَةٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كَاسْتِقْرَائِنَا الْفَرْضَ فِي جزئياته بِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي على الرحلة فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْوَتْرَ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا أُدِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهَذَا الظَّنُّ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

.سَدُّ الذَّرَائِعِ:

الذَّرِيعَةُ الْوَسِيلَةُ لِلشَّيْءِ وَمَعْنَى ذَلِكَ حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ دَفْعًا لَهُ فَمَتَى كَانَ الْفِعْلُ السَّالِمُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً إِلَى الْمَفْسَدَةِ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَنْبِيهٌ يُنْقَلُ عَنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ مِنْ خَوَاصِّهِ اعْتِبَارَ الْعَوَائِدِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةَ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمَّا الْعُرْفُ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَمَنِ اسْتَقْرَأَهَا وَجَدَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ فِيهَا وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ فَغَيْرُنَا يُصَرِّحُ بِإِنْكَارِهَا وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ التَّفْرِيعِ تَجِدُهُمْ يُعَلِّلُونَ بِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ وَلَا يُطَالِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْفَوَارِقِ وَالْجَوَامِعِ بِإِبْدَاءِ الشَّاهِدِ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ بَلْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ وَأَمَّا الذَّرَائِعُ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا مُعْتَبَرٌ إِجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ وَثَانِيهَا مُلْغًى إِجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الْآدَرِ خَشْيَةَ الزِّنَا وَثَالِثُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ اعْتَبَرْنَا نَحْنُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَنَا غَيرنَا فَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِنَا وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا وَيُكْرَهُ وَيُنْدَبُ وَيُبَاحُ فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَة كالسعي للمجمعة وَالْحَجِّ وَمَوَارِدُ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ مَقَاصِدُ وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي أَنْفُسِهَا وَوَسَائِلُ وَهِيَ الطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إِلَيْهَا وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَفْضَتْ إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ غَيْرَ أَنَّهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي حُكْمِهَا فَالْوَسِيلَةُ إِلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحُ الْوَسَائِلِ وَإِلَى مَا هُوَ مُتَوَسِّطٍ مُتَوَسِّطَةٌ وَيُنَبِّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَسَائِلِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فَأَثَابَهُمْ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ لِأَنَّهُمَا حَصَلَا لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّلِ إِلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فَالِاسْتِعْدَادُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْوَسِيلَةِ.

قَاعِدَةٌ:
كُلَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَقْصِدِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَسِيلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ وَقَدْ خُولِفَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَجِّ فِي إِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الشَّعْرِ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ تَنْبِيهٌ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةُ الْمُحَرَّمِ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ إِذَا أَفْضَتْ إِلَى مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَالتَّوَسُّلِ إِلَى فِدَاءِ الْأَسْرَى بِدَفْعِ الْمَالِ إِلَى الْعَدُوِّ الَّذِي حَرُمَ عَلَيْهِمُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا وَكَدَفْعِ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لَا يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِهِ وَكَدَفْعِ الْمَالِ لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لَا يَقْتَتِلَ هُوَ وَصَاحِبُ الْمَالِ وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ فِيهِ الْيَسَارَةَ وَمِمَّا يُشَنَّعُ بِهِ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ لِحَدِيثِ بَيْعِ الْخِيَارِ مَعَ رِوَايَتِهِ لَهُ وَهُوَ مَهْيَعٌ مُتَّسِعٌ وَمَسْلَكٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَلَا يُوجَدُ عَالِمٌ إِلَّا وَقَدْ خَالَفَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً وَلَكِنْ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ عَلَيْهَا عِنْدَ مُخَالِفِهَا وَكَذَلِكَ تَرَكَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ عِنْدَهُ وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَيْسَ هَذَا بَابًا اخْتَرَعَهُ وَلَا بِدْعًا ابْتَدَعَهُ وَمِنْ هَذَا الْبَاب مَا يروي عَن الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي أَوْ فَاضْرِبُوا بِمَذْهَبِي عُرْضَ الْحَائِطِ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ فَهَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ خَاصًّا بِمَذْهَبِهِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ.